لقاتلتهم عليه"
[متفق عليه]
ولقد أصر أن يتم بعث أسامة قائلا:
"والله لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر الرسول"
[ابن كثير].
حملات عسكرية
وأعد أبو بكر-رضى الله عنه- إحدى عشرة حملة عسكرية،كان من أشهرها:
حملة خالد بن الوليد، وحملة العلاء بن الحضرمى.
جيش العلاء بن الحضرمى
كان ملك البحرين، قد أسلم فى عهد الرسول ، وأقام فى رعيته الإسلام والعدل،
وعندما مات رسول الله ومات ملك البحرين،ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم:
لو كان محمد نبيّا ما مات.
وبقيت بالبحرين قرية يقال لها جُوَاثا ثابتة على دينها، فقد قام فيها رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله ، فقال:يا معشرعبد القيس إنى سائلكم عن أمر فأخبرونى إن علمتموه. قالوا:سَلْ. قال:أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا:نعم. قال:تعلمونه أم ترونه؟ قالوا:نعلمه. قال:فما فعلوا؟ قالوا:ماتوا. قال:فإن محمدًا مات كما ماتوا، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا:ونحن أيضًا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.وثبتوا على إسلامهم [ابن كثير].
وأرسل أبو بكر العلاء بن الحضرمى أحد كبار الصحابة إلى حرب المرتدين من أهل البحرين، وكان العلاء على معرفة بأحوال هذه البلاد لأن الرسول كان قد أرسله ليجمع الزكاة من أهلها.
وحدث فى هذه الغزوة أن نزل العلاء منزلا فلم يستقرالناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شىء سوى ثيابهم، وذلك ليلا، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فأصاب الناس همٌّ عظيم وجعل يوصى بعضهم إلى بعض،
فنادى منادى العلاء، فاجتمع الناس إليه، فقال:أيها الناس، ألستم المسلمين؟
ألستم فى سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا:بلى. قال:فأبشروا والله لا يخذل الله مَنْ كان فى مثل حالكم. ونودى لصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بالناس،
ثم جثا على ركبتيه، وجثا الناس، واستمر فى الدعاء حتى طلعت الشمس،
وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد مرة وهو يجتهد فى الدعاء، فوجدوا إلى جانبهم غديرا عظيمًا من الماء.
فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما انتهى النهارحتى أقبلت الإبل
من كل مكان بما عليها لم يفقدوا شيئًا من أمتعتهم.
والتقى جيش العلاء بالمرتدين فهزموهم، وفروا منهم فى البحر إلى "دارين"،
فتبعهم المسلمون، لكنهم عندما وصلوا إلى ساحل البحر ليركبوا،وجدوا أن المسافة بعيدة،ولو انتظروا حتى يجهزوا المراكب التى سوف يعبرون عليها،لتمكن الأعداء من الهروب، فاقتحم العلاء البحر بفرسه وهو يقول:يا أرحم الراحمين،يا حكيم يا كريم،
ويا أحد يا صمد، يا حى يا محيى، يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا. وأمر الجيش أن يقولوا ذلك، ففعلوا وعبر بهم الخليج بإذن الله،فقطعه إلى الساحل الآخر، فقاتل عدوه وهزمهم، وأخذوا غنائمهم وأموالهم. ولم يفقد المسلمون فى البحر شيئًا سوى عليقة فرس.
وكان مع الجيش راهب من أهل هجر، فأسلم وقال:خشيت إن لم أفعل أن يمحقنى الله لما شاهدت من الآيات،ولقد علمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، فحسن إسلامه [ابن كثير:البداية والنهاية].
لقد خرج المؤمنون خالصة نواياهم، غايتهم العزة لدين الله العظيم،
من أجل ذلك أمدهم الله بكراماته، وأيدهم بنصره.
لقد هزت هذه الجيوش الجزيرة العربية هزّا عنيفًا،وأعادت المارقين والخارجين إلى حظيرة الإيمان من جديد؛ ليعرفوا أن الله هو الحق المبين، وأن رسوله-صلى الله عليه وسلم-هو خاتم النبيين،وإذا كان محمد قد مات، فإن دين الإسلام الذى جاء به باق
إلى يوم القيامة بإذن الله.
وكان جيش أسامة الذى أرسله أبو بكر لمحاربة الروم قد حقق الهدف الذى بعث
من أجله، فَأَمَّنَ الحدود، وأعاد الثقة إلى النفوس!
وعرف الروم أن الدولة الإسلامية مازالت قوية،لم تضعف، وفى استطاعتها
أن تصد كيد الأعداء.
وفى وقت بعث أسامة، كان بعض مانعى الزكاة قد جاءوا إلى أبى بكر، فلما رأوا تصميمه على أخذ الزكاة، رجعوا إلى قبائلهم وأغروهم بالقضاء على الإسلام، والاستيلاء على المدينة، وكان أبوبكر قد وضع بعض الصحابة على أنقاب المدينة؛
لأنه توقَّع إغارتهم،وعندما اتجهوا بالفعل إلى المدينة،وعرف أبو بكر أوصى الواقفين على الأنقاب بالصبر، ثم اتجه هو وبعض الصحابة،إليهم ولقنوا هؤلاء المرتدين
درسًا لا يُنسى، حتى يعلموهم وغيرهم أن الدولة الإسلامية لم تضعف بعد وفاة النبى-صلى الله عليه وسلم-.
كما عمل أبو بكر-رضى الله عنه-على القضاء على كل من تسول له نفسه
أن يطعن فى دين الله، كأولئك الذين ادعوا النبوة أمثال الأسود العنسى وسجاح التى أسلمت فيما بعد، ومسيلمة الكذاب الذى أرسل إليه أبو بكر جيشًا هزمه شرهزيمة فى وقعة اليمامة، حيث قتل الله الكذاب بعد ما استشهد كثير من الصحابة وخاصة بعض حملة القرآن منهم.
فتوحات أبى بكر
انتهت حروب الردة،وتم القضاء على كل من ادعى النبوة كالأسود العنسى،
ومسيلمة الكذاب، وسجاح. ورجع الهدوء والاستقرار إلى الجزيرة العربية.
وبدأت أنظار المسلمين تتجه ناحية حدود دولتهم، فالفرس يقفون فى وجه الدعوة الإسلامية، ويساندون أعداءها. والروم يحاربون الدعوة وينصرون خصومها.
أبو بكر والفرس
بدأت عداوة الفرس للمسلمين فى عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-،
عندما أمر ملك الفرس عامله على اليمن أن يرسل من عنده رجلا ليقتل رسول الله أو يأسره بعدما أرسل له النبى من يدعوه إلى الإسلام ولكن الله أهلك ملك الفرس عندما ثارعليه قومه وحفظ رسوله-صلى الله عليه وسلم-حتى مات.
وعندما ارتدت العرب ظن الفرس أن العرب المرتدين سيقضون على الإسلام فى مهده، ولكن الله خَيَّبَ ظنهم، فعادوا يكيدون للإسلام، فما كان من أبى بكرالصديق-رضى الله عنه- إلا أن بعث إليهم خالد بن الوليد، وتحرك الجيش بقيادته نحو العراق، ونزل الحيرة فدعا أهلها إلى الإسلام، أو الجزية، أو الحرب.ولهم أن يختاروا الموقف
الذى يناسبهم، فلا إكراه فى الدين،ولا عدوان إلا على الظالمين!
والإسلام أحب إلى كل مسلم من الجزية أو الحرب.
وقبل أهل الحيرة أن يدفعوا للمسلمين الجزية ويعيشوا فى أمان وسلام،
وكانت هذه أول جزية تؤخذ من الفرس فى الإسلام.
وسار خالد بجيشه إلى الأنبار، فهزم أهلها حتى نزلوا على شروطه،وقبلوا دفع الجزية أيضًا. ثم اتجه إلى "عين التمر"، ومنها إلى "دومة الجندل"، وفتحهما عنوة وقهرًا بعد أن رفض أهلها الإسلام والجزية وأعلنوا الحرب! فعاد البطل الفاتح منتصرًا بعد أن أَمَّنَ حدود الدولة الإسلامية الناشئة من ناحية الفرس.
مواجهة الروم
لكن خطر الروم ما زال يهدد الدولة الإسلامية !! فهذا هرقل إمبراطورالروم قد جمع قواته على حدود فلسطين؛ وحرض العرب المجاورين له على معاداة المسلمين ليوقف المد الإسلامى والزحف المبارك، ولكن كلمة الله لابد أن تكون هى العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى! لابد أن يزيل أبو بكر -رضى الله عنه- كل العوائق التى تقف فى طريق الدعوة الإسلامية، وتتربص بها، تريد القضاء عليها!
ودعا أبو بكر المجاهدين لحرب الروم فى الشام، وأعلن التعبئة العامة ليلقن كل الذين يفكرون فى العدوان على الإسلام والمسلمين درسًا لا ينسى، وتحركت الجيوش من "المدينة المنورة" وبتشكيل أربع فرق يقودها قواد عباقرة عظام.
كان على رأس الأولى"عمرو بن العاص" ووِجْهَتُه "فلسطين".
وكان على رأس الثانية "يزيد بن أبى سفيان" ووجهته دمشق.
وكان على رأس الثالثة "الوليد بن عقبة" ووجهته "وادى الأردن".
أما الرابعة فكان على رأسها "أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح"
ووجهته "حمص".
اليرموك
لما انتهى أبو بكر الصديق من القضاء على فتنة المرتدين، قرر مواجهة القوتين العظميين آنذاك، وفكر فى مواجهة إحداهما، وبعث عددًا من الجند لمناورة القوى الأخرى، حتى لا تكون هناك فرصة لهما أن يجتمعا ضد المسلمين.
وكان الفرس قد عرفوا بعدائهم الشديد للإسلام، وقد ظهر هذا من خلال بعض الأعمال، كمساندتهم للمرتدين، وإمداد كل من ادعى النبوة فى الجزيرة العربية، بل حاولوا القضاء على الإسلام، ولذا، فقد استجاب أبو بكر لطلب المثنى بن حارثة للتحرش بالفرس،
بل أمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يساعد المثنى، وذلك بالإرسال إليه بعد انتهاء خالد
من حرب أهل العراق، وشعر الفرس بقوة المسلمين بعد الذى صنعه خالد ببعض الأراضى التى كانوا يحتلونها.
أما القوى الرومية،فقد بعث أبو بكر خالد بن سعيد بن العاص يرابط بقواته قرب مناطق يسيطرعليها الروم والقبائل العربية التى تعتنق النصرانية وتحالف الروم، ثم أرسل أبو بكر الجيوش بقوادها الأربعة إلى بلاد الشام، وقد أدرك الروم ما يرمى إليه خليفة المسلمين، فاستعدوا لحرب آتية لابد منها مع المسلمين،بل نقل هرقل مقرالقيادة إلى حمص ليكون أقرب من ميدان القتال، ولما رأى المسلمون ذلك، طلبوا من أبى بكر أن يرسل إليهم بالمدد، فأرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يتحرك بمن معه فى نجد إلى الشام، ولاسيما أن الفرس فى حالة من الضعف، ورحل خالد بمن معه إلى الشام، حيث جرت معركة اليرموك بين المسلمين والروم، واحتشدت القوات للمواجهة، وقبل البدء فى القتال كان أبو بكر قد توفى ورحل إلى الرفيق الأعلى وتولى مكانه عمر، ولكن الجيش الإسلامى لم يكن يعلم بذلك، وتجهز جيش المسلمين للقاء الروم.
هيكلة الجيش
استعد جيش المسلمين للقاء، فكان على ميمنة الجيش إلى الشمال عمرو بن العاص، وعلى الميسرة من الجنوب قرب نهر اليرموك يزيد بن أبى سفيان بن حرب،
وكان أبو عبيدة بن الجراح بينهما.
وخرج المسلمون على راياتهم،
فكان على راية الميمنة معاذ بن جبل-رضى الله عنه-،
وعلى راية الميسرة نفاثة بن أسامة الكنانى،
وعلى الرجّالة هاشم بن عتبة بن أبى العاص،
وعلى الخيّالة خالد بن الوليد،
وهو المشير فى الحرب الذى يصدر الناس كلهم عن رأيه،
ولما أقبلت الروم بأعدادها وعتادها وقد سدت الأفق،ورهبانهم يتلون الأناجيل يباركون صفهم.وأثناء ذلك،
تحرك خالد بن الوليد إلى أبى عبيدة، وقال له:إنى مشير بأمر.
فقال أبو عبيدة:قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فقال خالد:إن هؤلاء القوم لابد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإنى أخشى على الميمنة والميسرة، وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين، وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدوهم كانوا لهم ردءًا، فنأتيهم من ورائهم، وجعل قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله، حتى إذا فر أحد رآه، فيستحى منه، ورجع يقاتل مرة ثانية، فجعل أبو عبيدة مكانه فى القلب سعيد ابن زيد بن عمرو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وابن عم عمر، وزوج أخته، وساق خالد النساء وراء الجيش، ومعهن عدد من السيوف، وقال لهن: من رأيتنه هاربًا، فاقتلنه. ثم رجع إلى موقفه من الجيش.
قبل اللقاء
ولما برز الفريقان، قام عدد من أعلام المسلمين يعظون الجيش ويذكرون الناس بفضل الجهاد، والثواب عند الله يوم القيامة،فقام أبو عبيدة ووعظ الناس،كما قام معاذ بن جبل وعمرو بن العاص، وأبو سفيان بن حرب وأبو هريرة -رضى الله عنهم-.
السياسة الحربـية
ولما تقارب الفريقان، تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان ومعهما ضرار بن الأزور والحارث بن هشام وأبو جندل بن سهيل ابن عمرو، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع له. فلما ذهبوا إلى (تذارق) أراد أن يجلسهم على فرش من حرير فرفضوا، وجلس هو معهم حيث شاءوا، فعرضوا عليه إما الإسلام وإما الجزية وإما الحرب، ولكن الروم آثروا الحرب على الإسلام والجزية.
عز الإسلام
ثم طلب ماهان خالد بن الوليد ليبرز له فيما بين الصفين،فقال ماهان:إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطى كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها. فرد عليه خالد قائلا:إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت،غير أنَّا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب ماهان:هذا والله ما كنا نحدث به عن العرب.
بداية ونهاية
وتقدم خالد إلى عكرمة بن أبى جهل والقعقاع بن عمرو، وهما على جانبى القلب، وأمرهما ببدء القتال، وهكذا بدأت المعركة، وكان ذلك فى أوائل رجب عام (13 هـ)، وحملت ميسرة الروم على ميمنة المسلمين، فمالوا إلى جهة القلب، ثم تنادى المسلمون فتراجعوا، وحملوا على الروم وردت النساء من فر، ثم نادى عكرمة بن أبى جهل قائلا:قاتلت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فى مواطن، وأفرمنكم اليوم!
وبايعه جماعة من الصحابة على الموت، وصل عددهم إلى 400 رجل،وقاتلوا أمام فسطاط خالد، فجرحوا جميعًا، ومات بعضهم، ثم حمل خالد بن الوليد بالخيل على ميسرة الروم التى حملت على ميمنة المسلمين، فأزالوهم إلى القلب، وقتل المسلمون فى حملتهم هذه 6000 من الروم، ثم حمل خالد بمائة فارس على ما يقرب من 100000 من الروم، فانهزم الروم أمامهم بإذن الله تعالى، ولما عاد المسلمون من حملتهم جاء صاحب البريد إلى خالد بوفاة أبى بكر وتولية عمر،وكتب إليه بعزله عن قيادة الجيش وتولية أبى عبيدة، وكان يكلمه سرّا، فقال له خالد:أحسنت.
وأخفى الخبر حتى لا تحدث زعزعة فى صفوف المسلمين.
وبينما كان القتال على أشده بين جيش الإسلام وجيش الروم،خرج "جرجة"-
أحد أمراء الروم الكبار- من الصف،واستدعى خالد بن الوليد،فجاء إليه حتى
اختلفت أعناق فرسيهما،
فقال جرجة:يا خالد، أخبرنى فاصدقنى ولا تكذبنى،
فإن الحُرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع،
هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاه لك،
فلا تسلَّه على أحد إلا هزمته؟
قال:لا!
قال:فبم سميت سيف الله؟
قال:إن الله بعث فينا نبيّا، فدعانا، فنفرنا منه،
ونأينا عنه جميعًا،ثم إن بعضنا صدقه وتابعه،وبعضنا كذبه وباعده،
ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه،فقال لى:
"أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين"،
ودعا لى بالنصر،فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
فقال جرجة:يا خالد إلى ما تدعون؟
قال:شهادة أن لا إله إلا الله،وأن محمدًا عبده ورسوله،والإقرار بما جاء به
من عند الله -عز وجل-.
قال: فمن لم يجبكم؟
قال:فالجزية ونمنعهم (نحميهم).
قال:فإن لم يعطها؟
قال:نؤذنه بالحرب ثم نقاتله.
قال:فما منزلة من يجيبكم ويدخل فى هذا الأمر اليوم؟
قال:منزلته واحدة، فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا.
قال جرجة:فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم؟
قال:نعم وأفضل.
قال:وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
فقال خالد:لقد قبلنا هذا الأمر،وبايعنا نبينا وهو حى بين أظهرنا،تأتيه أخبارالسماء ويخبرنا بالكتاب،ويرينا الآيات،وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا،ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج،
فمن دخل فى هذا الأمر بحقيقة دينه كان أفضل منا.
فقال جرجة:بالله لقد صدقتنى ولم تخادعنى؟
قال:تالله لقد صدقتك،وإنَّ الله ولىّ ما سألت عنه من الإسلام.
ودخل جرجة الإسلام فأخذه خالد إلى خيمته،وصب عليه قربة من ماء،ثم صلى به ركعتين ورجعا إلى المعركة يضربان بسيفيهما من بدء ارتفاع النهار حتى غروب الشمس،وأصيب جرجة رحمه الله، فمات شهيدًا،ولم يكن صلى لله -عز وجل-
غيرهاتين الركعتين مع خالد.
بعد أن فر الروم ليلا إلى الواقوصة.وتم الفتح المبارك،وانهزمت الروم
هزيمة بالغة،علم بها هرقل،وارتحل من حمص.
لقد كان المسلمون رجالا لا يثبت لهم العدو رغم قلتهم،
ولقد انهار هرقل وهو يرى هزيمة الروم رغم كثرتهم، فقال لقواده:
ويلكم أخبرونى عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونك أليسوا بشرًا مثلكم؟
قالوا:بلى.
قال:فأنتم أكثرأم هم؟
قالوا:بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن.
قال:فما بالكم تنهزمون؟
فقال شيخ من عظمائهم:من أجل أنهم يقومون الليل،ويصومون النهار،
ويوفون بالعهد،ويأمرون بالمعروف،وينهون عن المنكر،ويتناصفون بينهم.
ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزنى،ونركب الحرام وننقض العهد،
ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط،وننهى عما يرضى الله،ونفسد فى الأرض.
فقال هرقل:أنت صدقتنى.
وكان تعداد الجيوش التى سيرت إلى الشام سبعة وعشرين ألفًا،
ولكنها زيدت بوصول جيش خالد إلى ستة وثلاثين.
وكان جيش الروم يقارب المائتين وأربعين ألفًا،ولكن الله نصرعباده
رغم قلة عددهم، بسبب إيمانهم وقوة عقيدتهم.
منجزات أبى بكر
كان عهد أبى بكر امتدادًا لعصر النبى-صلى الله عليه وسلم-،
لم يكن إلا متبعًا ومنفذًا لكل ما أشار به الرسول-صلى الله عليه وسلم-
أو أمر به،لم يبتدع أبو بكر-رضى الله عنه- شيئًا يخالف ما كان عليه رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-،بل كان كل شىء يسير وفقًا لشريعة الإسلام،
وانشغل الناس فى فترة خلافته بقتال المرتدين والفتوحات الإسلامية.
ولم يبق فى المدينة إلا من استبقاهم أبو بكرلحمايتها،ولاستشارتهم ولتبادل الرأى
معهم، وعلى رأس هؤلاء:
عمر بن الخطاب،وعلى بن أبى طالب،وطلحة بن عبيد الله،
والزبير بن العوام،وعبد الرحمن بن عوف،وسعد بن أبى وقاص.
وكانت المدينة المنورة فى عهده عاصمة الدولة الإسلامية ومركزالحكم ومقرالخلافة.
قسم أبو بكر الجزيرة العربية إلى ولايات جعل على كل منها أميرًا، يؤم الناس فى الصلاة، ويفصل بينهم فى القضايا، ويقيم الحدود؛ فكان على "مكة" عتاب بن أسيد، وعلى صنعاء المهاجر بن أمية، وعلى عمان والبحرين العلاء بن الحضرمى.
وقد اتخذ الصديق عمر قاضيًا على المدينة، وجعل أبا عبيدة أمينًا على بيت مال المسلمين.
ولقد كانت فترة حكمه قصيرة، لكنها كانت حاسمة فى تاريخ الإسلام،
فقد واجه أحرج المواقف، وربما وقف وحده عند إصراره على محاربة المرتدين
فى وقت اتجه فيه باقى المسلمين إلى المسالمة،
قائلين:كيف نحارب الجزيرة العربية كلها؟!
لكنه بإيمانه ويقينه وصدقه سرعان ما ضم المسلمين إلى رأيه،
ثم سار بهم جميعًا يدكّ صروح الشرك،ويقضى على الشكوك والأوهام!
ولم يتوقف عند هذا،بل راح يحطم قصور كسرى وقيصر.